مقدمة
لا يخفى على أي عاقل مدرك منصف، الأزمة الاقتصادية التي تمر بها الجمهورية الجديدة، إن جملنا وصفها فيجوز تسميتها بالأزمة الاقتصادية الحادة الناتجة عن عدد من المشاريع الاقتصادية غير المدروسة (طبقا لتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات) والقرارات السياسية الخاطئة، ما أوصل الحكومة الباسلة لفرض معاناة لمدة ساعة أو اثنتين يوميا على “أغلب” مواطني المحروسة.
إلا أن القارئ لكتاب “إغاثة الأمة بكشف الغمة” للمقريزي، الذي ولد وعاش ومات في كنف الدولة المملوكية، يعلم تماما أن الأزمات الاقتصادية تبدو وكأنها جزء من النسيج التاريخي لهذه الدولة المحيرة؛ التي وصفها صاعد الأندلسي في كتابه “طبقات الأمم” بـ “ليس في بلد أعجوبة إلا وفي مصر مثلها.. أو أعجب منها”، فلقد وضع المقريزي كتابه هذا من منطلق اقتصادي بحت وفي ظل ظروف اقتصادية قاسية، ومن واقع أزمة خانقة عاشها وقاسى منها.
ضربت الدولة المصرية مجاعة بصفة متقطعة بين عامي 1375 و1387 ميلادية، صاحبها انتشار للطاعون ذهب ضحيته الآلاف من أبناء الشعب المصري، من بينهم ابنة المقريزي الوحيدة، لذا جاء كتاب إغاثة الأمة باحثا عن أسباب المجاعة، وكيف انتشرت في البلاد، والأهم طرق إزالة الداء ورفع البلاء.
يخبرنا المقريزي في كتابه عن أسباب الأزمة الاقتصادية والتي أرجعها لثلاث، الأولى الفساد وانتشار الرشوة بين الطبقة الحاكمة، الثانية ارتفاع الأسعار بشكل يفوق قدرة المواطنين على البيع والشراء، الثالثة انهيار قيمة العملة المتداولة، وهي أسباب كتبت في العهد المملوكي منذ أكثر من 6 قرون إلا أنها تبدو وكأنها كتبت اليوم!!
بسبب عدم وفرة المعلومات سنتجاوز المجاعات التي ذكرها المقريزي (في كتابه) قبل ظهور الإسلام في مصر، ونبدأ من مجاعة عبد الله ابن مروان في عهد الدولة الأموية، تلتها بسنوات عدة مجاعة أبو القاسم الإخشيدي في عهد الدولة الإخشيدية، تلتها مجاعة أخرى في عهد علي الإخشيدي واستمرت 9 سنوات، ثم مجاعة في زمن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، ومن بعده المجاعة الشهيرة في عهد الخليفة المستنصر بالله، والمعروفة باسم “الشدة المستنصرية”، وأيضا في عهد كلا من الخليفة الآمر بأحكام الله، والخليفة الحافظ لدين الله، والخليفة الفائز بنصر الله.
وبعد زوال الدولة الفاطمية، شهدت الدولة المصرية مجاعة في عهد السلطان العادل الأيوبي، وهي المجاعة الوحيدة في زمن الدولة الأيوبية، وبعد قيام الدولة المملوكية شهد العباد مجاعة في عهد السلطان العادل كتبغا، والملك الناصر محمد بن قلاوون، والأشرف شعبان، وهي آخر المجاعات التي عاصرها المقريزي وكتب عنها.
مجاعات لم يذكرها المقريزي
لم يقتصر التاريخ المصري على مجاعات المقريزي، بل تخبرنا لوحة المجاعة الموجودة بجزيرة سهيل في أسوان، عن سبع سنوات من الجفاف والمجاعة في عهد الملك زوسر، كما أن أول ثورة جياع وقعت في التاريخ كانت في عهد الملك بيبي الثاني، وفي القرآن الكريم ذكرت مجاعة سيدنا يوسف عليه السلام.
كما يطلعنا الجبرتي في كتابه “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، على مجاعة علي باشا عام 1695 ميلادية، بسبب انخفاض منسوب نهر النيل، لحقتها مجاعة أخرى في عهد رامي محمد باشا عام 1705 ميلادية، ثم مجاعة عام 1748 ميلادية، في عهد مراد بيك، والتي حدثت بسبب الصراع السياسي بين الأمراء، والثلاثة وقعوا في عهد الدولة العثمانية.
الشدة المستنصرية
كما سبق وأوضحت، تظل الشدة المستنصرية أشهر المجاعات التي ضربت الدولة المصرية، وذكرتها كتب التراث واصفة لجوء الشعب المصري لأكل الكلاب والقطط ومن ثم الجيفة (في أغلب المجاعات المذكورة سابقا قيل أن المصريون أكلوا الجيفة)، إلى أن وصل بهم الحال لأكل لحوم البشر.
نصل هنا لبيت القصيد، والهدف من هذه المقدمة والسرد التاريخي، فلقد عقدنا منذ عدة أيام في أمانة حزب التجمع بالمحلة الكبرى، جلسة نقاشية عن مسلسل الحشاشين، وأثير ضمن ما أثير نقاش حول الشدة المستنصرية، وهنا ظهر رأيان، الأول وتبناه الصديق الأستاذ مصطفى الكيلاني، الناقد السينمائي، قائلا أن الشدة المستنصرية ليست كما وصفت بل تم تهويل أحداثها، ولم يأكل المصريون لحم بعضهم البعض، والرأي الثاني والذي تبنيته أنا، وهو حدوث تلك الفظائع التي نعلمها عن الشدة المستنصرية بالكامل، خاصة وأن الشدة لم تقتصر على المجاعة، بل شملت في مفهومها وأحداثها فوضى سياسية وأمنية وخروج عدة مناطق من سيطرة الدولة الفاطمية، وانقطاع الدعاء للخليفة الفاطمي من أعلى المنابر.
لذا رغم تأكدي التام من قراءة أهوال الشدة المستنصرية في عدة كتب، إلا أن الاستقصاء التاريخي هذا يسعى جاهدا إلى الوصول إلى الحقيقة بقدر الإمكان، أو لنقل أكثر الآراء صوابا، وأكثرها مصداقية، من خلال ما تخبرنا به كتب التاريخ والتراث، وما عاصره المؤرخون أو سمعوا عنه أو نقلوه.
الاستقصاء التاريخي
تولى المستنصر بالله الخلافة الفاطمية عام 1036 ميلادية (427 هجرية) وهو ابن 7 سنوات، وفي عام 1068 ميلادية (460 هجرية) وقعت الشدة المستنصرية نتيجة نقصان منسوب النيل واختلال الإدارة والفوضى السياسية والأمنية، ما دفع الدولة المصرية أو الخلافة الفاطمية لأزمة عاتية وكارثة كبرى.
وبشكل عام وقبل الدخول في تفاصيل الشدة المستنصرية، يوجد اختلاف بين المؤرخين على تحديد سنة البداية، وإن كانوا يتفقون على أنها استمرت سبع سنوات، فابن أيبك يخبرنا بدايتها عام 1059 ميلادية (450 هجرية)، وابن إياس يذكر بدايتها عام 1060 ميلادية (451 هـجرية)، ويؤكد المقريزي أنها كانت عام 1066 ميلادية (457 هجرية)، وأما السيوطي وابن الأثير وابن خلكان وابن تغري فلقد حددوها بعام 1068 ميلادية (460 هجرية)، والإمام الذهبي وابن الجوزي أخبرانا بأنها عام 1070 ميلادية (462 هجرية)، وربما كان سبب هذا الاختلاف تعدد الروايات وتوالي الأزمات الاقتصادية في هذه الفترة التي تطرق إليها المؤرخون.
المصدر الأول… المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور
عن الشدة المستنصرية يذكر ابن إياس في كتابه “المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور”، أنه وقع الغلاء لمدة سبع سنين متوالية، فأكلت الناس بعضها بعضا، وبيع فيها القمح بثمانين دينارا لكل أردب، وبمائة وعشرين دينارا، وبيع رغيف الخبز بخمسة عشر دينارا، وأكلت الناس الميتة والكلاب والقطط، ثم اشتد الجوع فصار الرجل يأكل ابن جاره ولا ينكر عليه ذلك أحد من الناس، وصارت طائفة من الناس يجلسون على السقائف وبأيديهم حبال فيها كلاليب، فإذا مر بهم أحد من الناس ألقوا عليه تلك الحبال ونشلوه وذبحوه، كما نوه ابن إياس عن حارة الطبق التي بيعت منازلها مقابل طبق من الخبز، والمرأة التي رمت عقد اللؤلؤ بعدما رفض أهل المحروسة مقايضة العقد بالقمح.
استعان ابن إياس في كتابه برواية ابن الجوزي، كون ابن إياس أحد أشهر وأهم المؤرخين الذين أرّخوا للعصر المملوكي، ولد في القاهرة عام 1448 ميلادية (852 هجرية) وتوفي بها عام 1523 ميلادية (930 هجرية)، أي أنه ولد بعد انتهاء الشدة المستنصرية بأكثر من 3 قرون.
المصدر الثاني… النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
في الجزء الخامس من كتاب “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة”، يبدأ ابن تغري كتابه بولاية المستنصر بالله الفاطمي، متحدثا عن الشدة المستنصرية قائلا “وحدثت في أيام المستنصر بمصر الغلاء الذي ما عهد بمثله منذ زمان يوسف عليه السلام، ودام سبع سنين حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وحتى أن المستنصر هذا بقي يركب وحده، وخواصه ليس لهم دواب يركبونها؛ وإذا مشوا سقطوا من الجوع؛ وآل الأمر إلى أن استعار المستنصر بغلة يركبها من صاحب ديوان الإنشاء”.
ولد ابن تغري في القاهرة عام 1410 ميلادية (813 هجرية)، وعاش ومات بها عام 1470 ميلادية (874 هجرية)، أي أنه عاصر المؤرخ المصري ابن إياس، وكان قريبا من سلاطين الدولة المملوكية وتتلمذ على يد المقريزي، وبالتالي لم يعاصر الشدة المستنصرية إذ ولد بعد زوالها بقرابة الـ 3 قرون أيضا، وحدد في كتابه اعتماده على رواية الذهبي وابن خلكان.
المصدر الثالث… الدرة المضية في أخبار الدولة الفاطمية
في الجزء السادس من كتاب “كنز الدرر وجامع الغرر”، والذي أسماه ابن أيبك الدواداري “الدرة المضية في أخبار الدولة الفاطمية”، تناول ابن أيبك الشدة المستنصرية في عدة مواضع، أولها عام 450 هجرية، قائلا “وفيها اشتد الغلاء بمصر وكثر الوباء، وكان يموت في كل يوم بما يحصيه ديوان المواريث نحو عشرة آلاف خارجا لا يعرف من صعاليك الناس، وبلغ القمح بثمان للدنانير عين مصرية الأردب المصري، وبلغ الشعير والفول خمسة دنانير والحمص تسع دنانير”.
كما تناول ابن أيبك قصة حارة الطبق، وأكل المصريين لجلود الكتب، وتساقط الطيور من الجوع، وتعدد الوزراء الذين اعتمد عليهم الخليفة الفاطمي في محاولة لإنهاء الأزمة دون جدوى، حتى قيل أنه في 7 سنوات استعان بأربعين مسئولا أو وزيرا حتى لجأ في النهاية لبدر الدين الجمالي.
ابن أيبك الذي عاش في عهد الدولة المملوكية (أغلب الظن أنه ولد عام 1309 ميلادية وتوفي عام 1335 ميلادية)، لم يعاصر الشدة المستنصرية أيضا، بل ولد بعد مرور أكثر من 200 عام على انتهاء الشدة المستنصرية.
وعلى الرغم من ذلك لم يذكر في كتابه شيئا عن أكل المصريين لحوم بعضهم البعض، محددا المصادر التي اعتمد عليها، مثل “الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة” وإن كان أغلب هذه المصادر مفقود، مثل “أصل الفاطميين”، “تحفة القصر في عجائب مصر”، ، وغيرها من المصادر.
المصدر الرابع… وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان
في المجلد الخامس من “وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان”، يتناول ابن خلكان الشدة المستنصرية، بنفس الوصف الذي نقله عنه ابن تغري في كتاب النجوم الزاهرة (المصدر الثاني في الاستقصاء)، أي أن ابن تغري نقل نصا كل ما ذكره ابن خلكان في مجلده، لم يزد حرفا ولم ينقص كلمة.
قاضي القضاة ابن خلكان ولد عام 1211 ميلادية (608 هجرية) بمدينة أربيل العراقية من أسرة تنحدر من البرامكة، عاش واستقر في دمشق حتى وفاته عام 1282 ميلادية (681 هجرية)، تتلمذ على يد ابن الأثير صاحب كتاب “الكامل في التاريخ”، انتهى من كتابه وفيات الأعيان في القاهرة بعد انتهاء الشدة المستنصرية بـ 200 عام.
المصدر الخامس… سير أعلام النبلاء
في الجزء الخامس عشر من “سير أعلام النبلاء”، يخبرنا شمس الدين الذهبي عن المستنصر بالله معد بن الظاهر لإعزاز دين الله قائلا “وفي سنة اثنين وستين، قطعت من مكة الدعوة المستنصرية، وخطب للقائم بأمر الله، وترك الأذان بحي على خير العمل، وذلك لذلة المصريين بالقحط الأكبر وفنائهم، وأكل بعضهم بعضا، وتمزقوا في البلاد من الجوع، وتمحقت خزائن المستنصر، وافتقر، وتعثر”.
المؤرخ الإسلامي شمس الدين الذهبي ولد عام 1274 ميلادية (673 هجرية) في ريف دمشق، رحل إلى مصر عام 1295 ميلادية (695 هجرية)، وسمع من شيوخها الكبار أمثال ابن دقيق العيد، وبدر الدين ابن جماعة، ثم عاد إلى دمشق، وتوفي هناك عام 1348 ميلادية (748 هجرية)، أي أن الذهبي ولد بعد انتهاء الشدة المستنصرية بقرابة الـ 200 عام، وزار مصر بعد مرور أكثر من قرنين على زوال الغمة.
في كتابه “سير أعلام النبلاء” أوضح الذهبي اعتماده على كتاب “الكامل في التاريخ” أيضا.
المصدر السادس… الكامل في التاريخ
يخبرنا ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” عن الشدة المستنصرية أنها وقعت عام 460 هجرية، ذاكرا الآتي “وفيها كان بمصر غلاء شديد، وانقضت سنة 461″، وفي عام 462 هجرية، وقعت بمصر مجاعة أخرى (أو ربما امتداد للمجاعة الأولى)، يصفها ابن الأثير بـ “وفيها كان بمصر غلاء شديد، ومجاعة عظيمة، حتى أكل الناس بعضهم بعضا، وفارقوا الديار المصرية، فورد بغداد منهم خلق كثير هربا من الجوع، وورد التجارـ ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته، نهبت من الجوع، وكان فيها أشياء كثيرة نهبت من دار الخلافة”.
ولد ابن الأثير عام 1160 ميلادية (555 هجرية) في مدينة جزرة جنوب شرق تركيا، ثم رحل إلى الموصل، وانتقل بعدها إلى بغداد ودمشق، ومنهما عاد لمدينة الموصل في العراق وظل بها إلى أن توفي عام 1233 ميلادية (630 هجرية)، أي أنه ولد بعد انتهاء الشدة المستنصرية بـحوالي 90 عاما، إلا أنه لم يزر الديار المصرية ولم يقم بها، لذا فإنه في روايته اعتمد على كتابات أخرى لم يسمي منها إلا مؤلَّف أبو جعفر الطبري، وهو ما ذكره ابن الأثير في مقدمة كتابه.
المصدر السابع… المنتظم في تاريخ الملوك والأمم
في المجلد السادس عشر من “المنتظم في تاريخ الملوك والأمم”، يحدثنا ابن الجوزي عن وصف المجاعة قائلا “وفي ذي القعدة ورد من مصر والشام عدد كثير من رجال ونساء هاربين من الجرف والغلاء، وأخبروا أن مصر لم يبق بها كبير أحد من الجوع والموت، وأن الناس أكل بعضهم بعضا”، وكان ذلك عام 1070 ميلادية (462 هجرية)، إلا أن الجوزي استبق المجاعة بالبلاء الذي أصاب البلاد عام 455 هجرية، حيث كان يموت كل يوم 1000 شخص.
ولد ابن الجوزي في مدينة بغداد عام 1116 ميلادية (510 هجرية)، ومات عام 1201 ميلادية (597 هجرية)، أي أنه أقرب المؤرخين زمنيا للشدة المستنصرية، حيث ولد تقريبا بعد مرور 50 عاما من وقوعها، إلا أنه كان بعيدا عنها جغرافيا، كونه ولد وعاش ومات في بغداد عاصمة الدولة العباسية.
وعلى حسب ما ورد ذكره، استقى ابن الجوزي هذا الوصف من أفواه من هاجروا من مصر إلى العراق واستقروا بها، أو من أهل العراق الذين سمعوه عن المصريين، قبل عودتهم مرة أخرى بعد انقشاع الغمة وزوال الاضطراب، ونجاح بدر الدين الجمالي في حفظ النظام وعودة الأمن.
المصدر الثامن… السجلات المستنصرية
السجلات المستنصرية عبارة عن خطابات بين الخليفة الفاطمي المستنصر بالله، ومن بعده ابنه المستعلي بالله، موجهة إلى دعاة اليمن وغيرهم، في الفترة من عام 1054 ميلادية (445 هجرية) إلى عام 1096 ميلادية (489 هجرية)، أي أنه بغض النظر عن اختلاف المؤرخين على تحديد سنة البداية، فإن جزء من هذه الخطابات أرسل وقت الشدة المستنصرية.
والقارئ لهذه الخطابات لا يجد وصفا للأهوال التي وصفتها كتب التاريخ المختلفة، بل تم الإشارة فقط للأزمة الاقتصادية (المجاعة) في أحد الخطابات بـ “وجوه مشرقة بعد عبوسها، منقادة بزمام الانتظام والصلاح بعد شموسها”، وفي خطاب آخر في وصف أمير الجيوش، “وذلك بحسن سياسة السيد أمير الجيوش الذي أعاد إلى الدولة العلوية ريق شبابها وجاهد حق الجهاد حتى جلى على الفتن غياهب ضبابها وأبت الأيام على غرر أفعاله سوء احتطابها”.
الخلاصة
من كل ما سبق نصل للنتائج التالية:
- لا يوجد اتفاق على زمن بدء الشدة المستنصرية، وإن كان هناك إجماع على حدوثها، فالرأي الأول أنها وقعت عام 450 هجرية، والثاني عام 451 هـجرية، والثالث عام 457 هجرية، والرابع عام 460 هجرية، والرأي الخامس عام 462 هجرية.
- لم يعاصر أي من المؤرخين أحداث الشدة المستنصرية
ابن إياس في كتابه “المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور”، نقل عن ابن الجوزي، وابن الجوزي بدوره نقل هذا الوصف من أفواه من هاجروا من مصر إلى العراق.
ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ”، نقل عن مصادر أخرى، ولم يزر الديار المصرية، ولم يحدد أسماء هذه المصادر.
ابن تغري في كتابه “النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة” نقل عن الإمام الذهبي وابن خلكان، والإمام الذهبي بدوره نقل عن ابن الأثير، وابن خلكان تتلمذ على يد ابن الأثير.
ابن أيبك اعتمد على مصادر أغلبها مفقود ومجهول. - ذكرت كتب التاريخ المختلفة، مثل الكامل في التاريخ، سير أعلام النبلاء، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، وقوع سلسلة من المجاعات في نفس توقيت الشدة المستنصرية، في الأندلس، مكة، اليمن، دمشق، بغداد، خراسان، وأذربيجان، وذكرت الكتب أحداثا جسام شهدتها هذه المناطق، وصلت لأكل الجيفة وشوي الموتى.
النهاية والاستنتاج
ابن الجوزي هو أول من كتب عن الشدة المستنصرية، بعد 50 عاما من زوال أثارها، بينما لم يزر القاهرة أو يقم بها، بل نقل أهوال الشدة من أفواه المصريون الذين هربوا إلى بغداد، وبحكم الفرق في عدد السنوات بين انتهاء الشدة المستنصرية ومولد ابن الجوزي وبدايه تأريخه، فإنه بنسبة كبيرة لم ينقل عن المصريون الذي فروا لبغداد، بل ربما نقل عن أبنائهم، أو نقل عن أهل بغداد الذين نقلوه سمعا عن المصريين.
أيضا لا يوجد مصدر محدد لأهوال الشدة المستنصرية كما نعلمها أو كما قرأنا عنها، فابن الجوزي كما ذكرنا نقلها عن مواطنين يحتمل تهويلهم للأمر، أو استخدام التعبير الدارج المستخدم اليوم “الناس بتاكل بعضها”، وابن الأثير أيضا لم يحدد المصادر التي اعتمد عليها في كتابه “الكامل في التاريخ”، ورغم أنه أتى ما لم يأتيه أحد من قبل، وهو جمع تاريخ المشرق والمغرب في كتاب واحد، إلا أنه يوضح في كتابه المصادر التي وصفت أهوال الشدة المستنصرية.
وهو ما يدفعني للإيمان بأن ما قيل عن أكل المصريين لحوم بعضهم البعض ليس إلا تهويلا للأحداث، مع الاعتراف الكامل بحدوث الشدة المستنصرية في مفهومها الواسع المتضمن حدوث مجاعة ووباء وأزمة أمنية، وربما أكل المصريون لحوم الجيفة فعلا كونه فعل متكرر ليس في مصر فقط وقت المجاعات، وإنما متكرر في عدة مناطق أخرى، وهو الاعتقاد المغاير تماما لما ألفناه وعرفناه عن الشدة المستنصرية وما كتبه المؤرخون عنها.