الأفروسنتريزم… كيف وأين بدأت؟ وخطورة تزوير التاريخ المصري القديم
مصطفى الطبجي، باحث تاريخ سياسي
مقدمة
منذ عدة أيام أطلت علينا المواقع الإخبارية بصورة الأستاذ الجامعي “كابا”، أحد المنتمين لحركة ” المركزية الأفريقية “، وهو يشرح تفاصيل الحضارة المصرية القديمة لمجموعة من أتباع الحركة، داخل المتحف المصري بالتحرير، مدعيا أن الأفارقة أصحاب البشرة السمراء هم أصحاب الحضارة الحقيقيين، وليس قدماء المصريين، الأمر الذي أثار استفزاز وغضب المصريين؛ ما دعا الحركة لحذف الصور من منصات التواصل الاجتماعي.
هذه الواقعة ليست الأولى التي يشتبك فيها المصريون مع من يروجون لأفكار وتوجهات ” المركزية الأفريقية “، ففي أبريل 2023، عرضت شبكة Netflix مسلسلا عن الملكة ” كليوباترا ” بصفتها آخر ملوك مصر التي تحارب لحماية عرشها وعائلتها وإرثها في إطار من الدراما الوثائقية، إلا أنها استعانت بالممثلة البريطانية “أديل جيمس”، وهي من أصحاب البشرة السمراء، لتؤدي دور ” كليوباترا “، كمحاولة لترسيخ هذه المزاعم والافتراءات، وهو أيضا ما أثار استفزاز وغضب المصريين.
وكرد فعل من الممثلة البريطانية، صرحت خلال ظهورها في برنامج THE WAYNE AYERS PODCAST، “أنها واجهت انتقادات صعبة.. ومن المحزن أن يقوم بعض المصريين أو أشخاص آخرين بذلك… إما أنهم يكرهون أنفسهم أو يشعرون بتهديد من أصحاب البشرة السمراء لدرجة أنهم يوجهون مثل هذه الانتقادات، ويحاولون فصل مصر عن بقية القارة”.
ومع تكرار مصطلح ” الأفروسنتريك ” أو ” المركزية الأفريقية ” في العديد من المواقف والأخبار التي سيتم ذكرها لاحقا، بات واضحا أهمية شرح تاريخ هذه الحركة لمعرفة كيف وأين بدأت وإلى ماذا تهدف؟! والأهم ما مدى خطورتها؟! خاصة وأن البدايات الحقيقية لحركة ” المركزية الأفريقية ” لم تكن عام 1928، كما يعتقد الأغلبية، لذا وبشكل عام يمكن تقسيم تاريخ الحركة إلى 4 مراحل رئيسية.
المرحلة الأولى (البذرة)
تبدأ المرحلة الأولى عام 1829، وأعلم أن التاريخ قد يبدو مفاجئا، إلا أن البذرة التي زرعت وقتها لتطرح فيما بعد شجرة ” المركزية الأفريقية ” المسمومة، وجدت طريقها على يد “ديفيد ووكر”، الكاتب والناشط الأمريكي المناهض للعبودية، الذي ولد لأب من العبيد وأم حرة.
انضم “ديفيد ووكر” لعدد من الحركات المناهضة للعبودية، من أشهرها “جمعية ماساتشوستس العامة للملونين” أو MGCA، الساعية لإلغاء العبودية ووضع حد للتمييز، فضلاً عن تحسين المستوى الفكري والأخلاقي للأميركيين الأفارقة في جميع أنحاء البلاد، وهو ما فتح الطريق لووكر كي يصبح وكيلا لجريدة Freedom’s Journal، أول جريدة للأمريكان من أصحاب البشرة السمراء تصدر في أمريكا، والتي نشرت عام 1827 عن وجود علاقة بين المصريين القدماء والأفارقة أصحاب البشرة السمراء.
أدرك ووكر قوة الكلمة المكتوبة في إحداث التغيير، لذا في سبتمبر عام 1829 نشر كتابه Appeal to the Coloured Citizens of the World أو “المناشدة”، الذي يدعو فيه أصحاب البشرة السمراء لمقاومة العبودية والعنصرية، مهاجما المدافعين عن العبودية، بما في ذلك الحكومة، والكنائس، كذلك طالب ووكر بإلغاء عقوبة الإعدام، ورفض مؤيدي حركة الاستعمار، الذين أرادوا تخليص البلاد من السود الأحرار عن طريق إرسالهم إلى إفريقيا (بهذه الطريقة تأسست دولة ليبيريا)، حيث سعى ووكر إلى المطالبة بمكانة السود في أمريكا، وليس التخلي عنهم، وفي سبيل ذلك حث على المقاومة المسلحة إذا فشلت كل الطرق الأخرى، ولعل أبرز من تأثر بفكرة حمل السلاح، “نات ترنر”، الذي قاد في أغسطس عام 1831 ثورة مسلحة قتل فيها 55 من الأمريكان ذو البشرة البيضاء.
وفي محاولة لإثبات أن البشرة السمراء ليست علامة على الدونية ونقص الإنسانية، تحدى ووكر الرافضين لكتاباته من أصحاب البشرة البيضاء أن يظهروا له جزء من التاريخ سواء كان معتمدا على نصوص دينية أو كتابات وثائقية، يثبت أن المصريين القدماء تعاملوا مع بني إسرائيل بأسلوب متدني يوحي أنهم ليسوا من البشر، مشيرا إلى الفترة التي كان بني إسرائيل فيها مستعبدين في مصر.
هذا الربط التاريخي المغلوط الذي استخدمه “ديفيد ووكر” بمثابة البذرة الأولى لمزاعم حركة ” المركزية الأفريقية “، فبغض النظر عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية لبني إسرائيل في مصر، إلا أنه لا علاقة بالأفارقة أصحاب البشرة السمراء بمصر أو حكامها أو شعبها أو تعاملهم مع بني إسرائيل.
المرحلة الثانية (التأسيس)
في البداية لم تحظى دعوات “ديفيد ووكر” بتأييد معظم مؤيدي إلغاء عقوبة الإعدام، كذلك لم تحظى دعواته في البداية بتأييد من يسعون لتحرير الأمريكان أصحاب البشرة السمراء من رق العبودية، حيث تم اعتبار رسالته متطرفة للغاية، خاصة وأنها تدعو لحمل السلاح.
مع الوقت بدأ تأثير دعوات ووكر يلقى قبولا لدى العديد من النشطاء أصحاب الكلمة، أمثال “فريدريك دوجلاس”، الكاتب الأمريكي ذو البشرة السمراء، وأحد المنادين بتحرير العبودية والمدافع عن حقوق أصحاب البشرة السمراء، وكذلك “ويليام لويد جاريسون”، رئيس تحرير جريدة The Liberator المعادية للعبودية الصادرة عام 1831.
ومن أبرز الأسماء التي كان لها دور كبير في تأسيس حركة ” المركزية الأفريقية “، الجامايكي “ماركوس جارفي”، مؤسس صحيفة Negro World بداية القرن العشرين، والتي كانت توزع بصورة واسعة عبر أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية وفي بعض دول أمريكا اللاتينية، والتي استطاع من خلالها التلاعب بوسائل الإعلام، وتنظيم أحداث عامة ومؤتمرات سنوية، ومظاهرات حمل فيها المشاركون أعلاما حمراء وسمراء وخضراء، والتي أصبحت فيما بعد رمزا لحركة ” المركزية الأفريقية ” إلى يومنا هذا.
وفي عام 1914 أسس “ماركوس جارفي” ما عرف باسم “الرابطة العالمية لتنمية الزنوج وعصبة المجتمعات الأفريقية” أو UNIA، والتي تهدف إلى النهوض بأصحاب البشرة السمراء من ذوي الأصول الأفريقية في جميع أنحاء العالم، مستخدمة شعار «إله واحد! هدف واحد! مصير واحد!»، من أجل تحقيق هدف «أفريقيا للأفارقة، في الداخل والخارج!».
من خلال هذه الرابطة نصب ماركوس نفسه رئيسا للقارة الأفريقية، مروجا لفكرة عودة أصحاب البشرة السمراء للقارة الأفريقية من الشتات، العودة للوطن كما روج ماركوس، حيث تصور أفريقيا موحدة كدولة الحزب الواحد، التي يحكمها هو، والتي من شأنها أن تسن قوانين لضمان نقاء العرق الأسود، فكرة صهيونية التي لا تختلف كثيرا عن الفكرة التي روج لها ونشر أفكارها “تيودور هرتزل” عام 1897، والتي زيفت التاريخ لتسرق فيما بعد الأراضي الفلسطينية.
كل هذه التراكمات أوصلتنا للمرحلة الثانية (التأسيس) عام 1928، حينها تأسست في أمريكا حركة ” المركزية الأفريقية “، وهي باختصار حركة عنصرية رافضة لأصحاب البشرة البيضاء، متعصبة بشكل أعمى لأصحاب البشرة السمراء، تهدف إلى إعادة كتابة تاريخ أصحاب البشرة السمراء، بدلا من أن يظل تاريخهم مرتبطا بفترة العبودية، لهذا حرصوا على أن التاريخ المراد كتابته يسبق مرحلة الاستعمار الأوروبي والأمريكي لسكان القارة الأفريقية، ليؤكدوا زورا وبهتانا من خلاله أن الأفارقة أصحاب البشرة السمراء هم منشأ الحضارات الإنسانية بالكامل.
المرحلة الثالثة (الانتشار)
منذ بداية تأسيس الحركة عام 1928، ظلت أفكارها منتشرة بين أساتذة الجامعة، ونظرية نسب الحضارة المصرية القديمة للأفارقة أصحاب البشرة السمراء، لم يتم مناقشتها إلا بين جدران المؤسسات الجامعية والمراكز الفكرية المتخصصة، ورغم التنويه عنها بشكل واضح في جريدة Freedom’s Journal عام 1827، إلا أن النظرية المزيفة لم تحظى بانتشار بين المواطنين أصحاب البشرة السمراء في أمريكا، بل وكانت محط سخرية من الأكاديميين.
في منتصف القرن العشرين بدأت المرحلة الثالثة (الانتشار) لنظرية نسب الحضارة المصرية القديمة للأفارقة أصحاب البشرة السمراء، ومن أبرز من آمنوا بتلك النظرية، “مالكوم إكس”، الناشط الحقوقي والمدافع عن حقوق الأمريكان أصحاب البشرة السمراء، ففي تسجيل له أفاد بأن الحضارة المصرية القديمة التي انبهر بها الرجل الأبيض هي الأصل من بناء وإبداع الرجل الأسود!!
أيضا في عام 1951، ناقش السنغالي “أنتا ديوب” رسالة دكتوراه في فرنسا بعنوان “المستقبل الثقافي للفكر الأفريقي” والتي تحدث فيها عن أصول المصريون القدماء ما قبل عهد الأسرات، مدعيا أن المصريون القدماء من أصحاب البشرة السمراء، وهنا بدأت النظرية تحظى بانتشار بين المواطنين أصحاب البشرة السمراء في أمريكا، ومن ثم بدأت عجلة تزييف التاريخ في الدوران.
ما ساعد أكثر على انتشار تلك النظرية المسمومة بين المواطنين أصحاب البشرة السمراء في أمريكا، حركة ” أمة الإسلام “، التي أسسها ” والاس فارد محمد”، وهي إحدى الحركات العنصرية الفاعلة والمؤثرة بين أصحاب البشرة السمراء في أمريكا، والتي آمنت بتفوق أصحاب البشرة السمراء وأصالتهم والتأكيد على انتمائهم إلى الأصل الأفريقي والتهجم على أصحاب البشرة البيضاء ووصفهم بالشياطين.
المرحلة الرابعة (الصدام)
في الربع الأخير من القرن العشرين، وتحديدا في عام 1980، نشر الأستاذ الجامعي “موليفي أسانتي”، وهو أمريكي من أصحاب البشرة السمراء، 3 كتب مهمة عن ” المركزية الأفريقية “، الكتاب الأول Afrocentricity عام 1980، والكتاب الثاني The Afrocentric Idea عام 1987، والكتاب الثالث Kemet, Afrocentricity, and Knowledge عام 1990، التي ترفض في مجملها كل ما هو غير أفريقي من أصحاب البشرة السمراء.
من هنا بدأت المرحلة الرابعة (الصدام)، ومولد مصطلح ” الأفروسنتريزم ” بصيغته الحالية الذي أصبح الأكثر استخداما وانتشارا، كما أطلق على المؤمنين بهذه النظرية لقب ” الأفروسنتريك “، وهو المصطلح المنتشر أيضا حاليا ومستخدم بدرجة كبيرة، ومن هنا بدأت “المركزية الأفريقية” في الخروج عن سياقها بنسبة كبيرة، والانتشار بنسبة أكبر في العالم أجمع.
فبعد أن كانت الحركة تتحدث فقط عن صياغة التاريخ من وجهة نظر أفريقية، بدأت في وضع أحداث بديلة تثبت التفوق أصحاب البشرة السمراء، فمثلا زعمت الحركة أن أصحاب البشرة السمراء هم من اكتشفوا أمريكا قبل وصول “كريستوفر كولومبوس” لها عام 1498، كما بدأت أصواتهم ترتفع بأن مصر القديمة كانت أرضا لأصحاب البشرة السمراء، ومنها نبعت كافة الثقافات الأفريقية والأوروبية أيضا، كما أفاد “مارتن بارنال”، المؤرخ الأمريكي، في موسوعته Black Athena الصادرة عام 1987، أن الحضارة اليونانية اقتبست من الحضارة المصرية القديمة أشياء كثيرة تجعل من الأخيرة حضارة مؤسسة للحضارة اليونانية، وبما أن مصر كانت أرضا لأصحاب البشرة السمراء، فإن الحضارة اليونانية هي الأخرى حضارة سمراء.
الرفض الشعبي
كما أوضحنا سابقا، واقعة المتحف المصري ليست الواقعة الأولى التي ينتفض فيها المصريون دفاعا عن تاريخهم وهويتهم، ونسرد هنا عددا من الفعاليات التي حاول ” الأفروسنتريك ” نشر نظريتهم المشبوهة من خلالها، إلا أنه تم إلغاءها نتيجة لصحوة عدد كبير من المدافعين عن الهوية المصرية، ونشرهم على مواقع التواصل الاجتماعي رفضا باتا لإقامة تلك الفعاليات.
- في عام 2018 زار وفد من أتباع “المركزية الأفريقية”، بازارا مصريا، ويظهر في الفيديو عاملا مصريا، يشرح للمجموعة أن الحضارة المصرية القديمة قامت على أيدي أصحاب البشرة السمراء، كما ظهر في الفيديو فرحة سيدة أفريقية مؤكدة أنه اعتراف مصري بأفكارهم، إلا أن الفيديو لم يحظى بانتشار إلا عام 2024.
- في عام 2022 سعت حركة “المركزية الأفريقية” إلى تنظيم مؤتمر في أسوان تحت عنوان “العودة للجذور”، وحاول القائمون على المؤتمر إضفاء طابع سياحي وثقافي على المؤتمر الذي يشرف على تنظيمه مركز “حابي” للتكامل والتعاون الاقتصادي.
- في عام 2023 سعت حركة “المركزية الأفريقية” إلى تنظيم حفل للفنان الأميركي، “كيفن هارت”، الذي تنظمه شركة R Production، وجاء الرفض الشعبي بعد قيام كيفين بإنتاج وتقديم مسلسل في إطار من الدراما الوثائقية عبر شبكة Netflix بعنوان “دليل كيفين هارت إلى التاريخ الأسود”.
- في عام 2023 سعت حركة “المركزية الأفريقية” إلى تنظيم حفل لمغني الراب، “ترافيس سكوت”، الذي تنظمه شركة Live Nation تحت سفح الأهرامات، لما لها من مكانة بارزة في فكر “الأفروسنتريك” حيث يروج أتباع الحركة أن التاريخ البشري والحضارة تبدأ من الأهرامات، وأن من شيدها هم أصحاب البشرة السمراء كوعاء كبير للحضارة الإنسانية، بما في ذلك علوم الفلك والعمارة والتحنيط وغيرها.
الموقف الرسمي
يبدو لافتا أن مواقع التواصل الاجتماعي كانت هي السباقة في السنوات الأخيرة عن المؤسسات الحكومية الرسمية، في ملاحقة أفكار ” الأفروسنتريك ” المشبوهة ومساعيهم نحو سرقة الحضارة المصرية القديمة من خلال إقامة حفلاتهم أو فعاليتهم في مصر.
بل إن الموقف الرسمي الوحيد لوزارة السياحة والآثار عام 2023، عندما أصدرت قرار بإلغاء تصريح التنقيب عن الآثار الصادر للمتحف الوطني الهولندي، جاء بعد تقديم النائب أحمد بلال البرلسي، عضو مجلس النواب، نائب رئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع، طلب إحاطة ضد وزير السياحة، ومهاجمة الوزير في الجلسة العامة لمجلس النواب.
لكن على الجهة الأخرى، فإن إلغاء الحفلات ليس هو الحل الأمثل، والاعتماد على ضعف رواية حركة “المركزية الأفريقية” ليس هو السبيل الآمن، وتجاهل المؤسسات الحكومية الرسمية ليس هو التصرف الصحيح، لأن ترك الأمر لعامة المواطنين، ولصفحات التواصل الاجتماعي، سيخلق عنصرية مضادة من المصريين تجاه كل أصحاب البشرة السمراء، سواء كانوا مؤمنين بالمركزية الأفريقية، أو تشابه ملامح فحسب.
حركة ” المركزية الأفريقية ” أو ” الأفروسنتريزم ” وأتباعها من ” الأفروسنتريك “، ليسوا فقط مزورين للتاريخ، وليسوا فقط ناهبين للحضارة المصرية القديمة، وليسوا فقط مدافعين عن أصحاب البشرة السمراء، بل إن تلك الحركة الصهيونية في عقيدتها، العنصرية في أفكارها، تسعى لسرقة التاريخ كمقدمة لسرقة الأرض.
Sumber : Jalalive