كانت دائمًا مناقشاتنا تدور منذ ثورة 30 يونيو، حول الكيفية التي يمكن أن تتخلص بها الدولة المصرية من جماعة الإخوان الإرهابية. وحتى يمكننا الوصول إلى إجابة، كان لا بد أن نستعرض تجارب الماضي التي ساهمت في تشكيل الصورة الذهنية حول الجماعة.
فمنذ تأسيس الجماعة في عام 1928، كان التمويل الخارجي الأول مبلغ 500 جنيه إسترليني من مكتب شركة قناة السويس في الإسماعيلية، الممثل للسفارة البريطانية! وتوالت بعد ذلك أشكال الدعم المالي واللوجستي. ووصل الأمر إلى تبني الجماعة دورًا يخدم مصالح الإمبراطورية البريطانية في مصر والمنطقة العربية والشرق الأوسط، بمنطق فرق تسد. وما زالت الجماعة تؤدي دورها المرسوم في غرس بذور الفرقة في المجتمع.
ومع أول موجات الصدام في عام 1948، عندما تزايدت وتيرة أعمال العنف من أفراد جماعة الإخوان في مدن وقرى مصر كافة، صدرت المذكرة التاريخية للسيد عبد الرحمن عمار، وكيل وزارة الداخلية، التي بناءً عليها صدر المرسوم الوزاري في 8 ديسمبر 1948، من محمود فهمي النقراشي باشا، بقرار حل جماعة الإخوان ومصادرة وتصفية أموالها، وإغلاق جميع مقراتها، وتجميد أنشطتها، وتسليم أي أوراق تنظيمية. ثم جاء قرار مجلس قيادة ثورة 23 يوليو بالإجماع، في 14 يناير 1954، بحل جماعة الإخوان مجددًا.
طيلة 20 عامًا، اعتمدت الجماعة على التمويل والدعم الداخلي، لأنها كانت في مراحل الانتشار والتجنيد الأولى. بناءً على ذلك، كانت أموال المشتركين تمثل الجزء الأكبر من مالية الإخوان. ولكن بعد الصدام مع مجلس قيادة ثورة يوليو، انتهجت الجماعة نهجًا جديدًا، حيث سافر عدد من عناصرها إلى الخارج، فمنهم من توجه إلى لندن، ومنهم من ذهب إلى الجزائر، وآخرون إلى السعودية والكويت والعراق، وذلك في أواخر الخمسينيات والستينيات. كان من بين هؤلاء يوسف القرضاوي، وكمال الهلباوي، ويوسف ندا، وإبراهيم منير، ومهدي عاكف، وغيرهم.
في المقابل، تغيرت طريقة التعامل مع الجماعة. ففي أزمة الحل الأولى عام 1948، كان التعامل أمنيًا بحتًا، ثم تطور الأمر إلى المواجهة الفكرية والثقافية في عهد عبد الناصر، من خلال صفحات الجرائد وبواسطة كبار الكُتّاب والمثقفين.
وهنا برز الدور الخارجي في دعم الجماعة ضد مصر، حيث تواصلوا مع الإنجليز لمساعدتهم في الانقلاب على عبد الناصر، وشجعوا حلف بغداد ضد مصر، ودعموا الأنظمة الملكية في صراعها مع نظام عبد الناصر في مصر. واستغل قادة الجماعة تلك السنوات للتقرب من الأسر المالكة، ولتعظيم رؤوس الأموال التي تمكنوا من حصدها.
ومع وفاة عبد الناصر وتولي السادات الحكم، تم الإعلان عن المصالحة الشاملة، التي سمحت لهم بالانتشار والعمل بحرية، ليس فقط اجتماعيًا ودينيًا، وإنما أيضًا سياسيًا، وفي الجامعات، والقرى، والمدن. توسعت قواعدهم وزادت رؤوس الأموال العائدة من الخليج، مما أدى إلى بروز تأثير الامتداد والنفوذ السياسي والمالي للجماعة داخل وخارج مصر، وتم الإعلان عن التنظيم الدولي للإخوان بقيادة المرشد العام في مصر، وانتهت حقبة السادات بمكاسب عظيمة للجماعة، تعاظمت فيها منابع تمويل التنظيم الدولي للإخوان داخليًا وخارجيًا.
ومع بداية عهد الرئيس مبارك، وتزامنًا مع فترة حكم الملك فهد الذي أطلق على نفسه لقب “خادم الحرمين الشريفين“، أعلنت السعودية عن ما يُعرف بـ “الصحوة الإسلامية” ودعمت المجاهدين الأفغان. في تلك الفترة، تقاربت قيادات الإخوان من الأسر المالكة السعودية والكويتية والقطرية، وانفتحت حنفية الأموال بالمليارات للصرف على ما سُمّي بالصحوة.
وكانت تجربة حركة حماس الإخوانية هي بوابة الدخول إلى القضية الفلسطينية، بهدف كسب التعاطف الشعبي. استمر هذا الحال طيلة سنوات حكم مبارك، تحت شعار “مشاركة لا مغالبة”، وبناء عليه استفحل وجود الإخوان في معظم القطاعات تقريبًا، مثل الصحة، التعليم، العقارات، الدواء، تجارة العملة الصعبة، الكمبيوتر، الموبايل، وغيرها الكثير.
ومنذ الثمانينيات، بدأوا دخول البرلمان من خلال قوائم حزب الوفد، ثم حزب العمل، ثم عبر ما أُطلق عليه “مؤتمر الإصلاح السياسي” في التسعينيات، والجمعية الوطنية للتغيير في بداية الألفية، بالإضافة إلى حملات إطلاق الحريات السياسية، وحركة كفاية، وغيرها.
توغل الإخوان في المشهد السياسي المصري، وتحالف معهم البعض تحت مبدأ “طالما نحن ضد مبارك فلا ضرر من التحالف السياسي معهم”. بل وصل الأمر ببعض الأطراف إلى الارتباط التنظيمي والتحالف الانتخابي معهم. وعلى التوازي، كان الدعم الخارجي يتزايد، خصوصًا من السعودية، وقطر، وتركيا، وإيران، بينما كانت لندن وواشنطن تلعبان دورًا في الخلفية.
في يناير 2011، ظهر دور الإخوان في تنفيذ مشروع تقسيم المنطقة العربية والشرق الأوسط. وكانت الخطوة الحقيقية في مواجهتهم أثناء ثورة 30 يونيو. بناءً على ذلك، كان التحدي والسؤال: هل تواجه الدولة جماعة الإخوان من خلال القبض على عناصرها وتصفية ومصادرة الأموال فقط؟ أم تتجه إلى المواجهة الفكرية بالتوازي مع الحرب الأمنية والعسكرية؟
وهنا ظهرت مقولة “بدلًا من مطاردة الناموس، عليك أن تردم المستنقع“، نعم، سياسة ردم المستنقع، أو ما يُعرف بتجفيف المنابع، كانت الخيار الاستراتيجي الذي انتهجته الدولة المصرية ومؤسساتها طيلة عشر سنوات، منذ ثورة 30 يونيو وحتى الآن.
تعالَ نستعرض معًا تفاصيل المشهد:
أول هذه المنابع كانت المملكة العربية السعودية، ومن يتابع التحولات في المملكة يدرك تمامًا موقفها من جماعة الإخوان الإرهابية طيلة سنوات إدارة محمد بن سلمان. فقد اعترف الأمير محمد بأن أعمامه وآباءه قد أخطأوا في الماضي، وقامت السلطات السعودية بحرق كتب سيد قطب وحسن البنا وكل مطبوعات الإخوان، مع إزالتها من المناهج الدراسية.
ثم تأتي دولة قطر، التي استمرت في دعم الإخوان سياسيًا وإعلاميًا وماليًا حتى حدث التقارب القطري المصري منذ سنوات. هذا التقارب أدى تدريجيًا إلى تخلي قطر عن الإخوان، من خلال ترحيل بعضهم، وإغلاق منصات إعلامية كانت تمولها لدعم الجماعة، والتوقف عن إصدار تأشيرات وجوازات سفر لهم.
أما تركيا، فقد سلكت مسارًا مشابهًا، حيث أغلقت عددًا من القنوات الفضائية التي استغلها الإخوان للهجوم على مصر وترويج الأكاذيب من أراضيها. ووصل الحال ببعض أعضاء الجماعة في تركيا إلى طلب العودة إلى مصر.
على الجانب الآخر، تخلت إيران مؤخرًا عن دعم حماس الإخوانية في غزة. ومن المؤشرات على ذلك استهداف إسماعيل هنية في طهران، وسكوت إيران عن الأحداث الجارية في غزة خلال الأشهر الأخيرة، نظرًا لانشغالها بمأساة حزب الله، وباستهداف منشآتها، وبالتوصل إلى اتفاق حول ملفها النووي.
حتى الدول التي كانت تمثل ملاذًا آمنًا لعناصر وكوادر جماعة الإخوان، مثل جنوب إفريقيا وماليزيا وسنغافورة، أصبحت غير مرحبة بهم، خاصة بعد جولات الرئيس السيسي وعقد العديد من الاتفاقيات مع مصر، بالإضافة إلى زيارات الشيخ أحمد الطيب والشيخ أسامة الأزهري لهذه الدول وغيرها من الدول الآسيوية الأخرى، واليوم بعد إعلان فوز ترامب، أصبحوا من غير المرحب بهم في أميركا. أما لندن فهي تصطفي عملاءها، فتختار من يدخل منهم إلى أراضيها ومن تمنحه الإقامة وحق اللجوء.
ومن ناحية الهيكل التنظيمي، نحن أمام جماعة متفسخة ومنهارة، تتألف من حوالي أربع فرق وانشقاقات في الداخل والخارج. وكل فريق يسعى لاسترضاء جهاز مخابرات معين لضمان استمرار وجوده.
بناءً على ما سبق، يتضح أن الجماعة قد فقدت مصادر تمويل ضخمة ومهمة، مما أثر بشكل كبير على حركتها وقراراتها وتوجهاتها داخليًا وخارجيًا. لذلك، لا يمكن حاليًا الحديث عن رأي موحد للجماعة.
إن تجفيف منابع الجماعة جعلها تواجه موقفًا تنظيميًا جديدًا لم يسبق أن مرت به من قبل، ولا يمكن مقارنته أو تشبيهه بأي أزمة سابقة. فمنذ صدور حكم حظر أنشطة الجماعة في عام 2013، صادرت السلطات المصرية الكثير من أموالها وأصولها داخل مصر، والتي كانت موزعة على قطاعات اقتصادية متنوعة. ورغم ذلك، استطاعت قيادات التنظيم تسييل جزء كبير من هذه الأصول في صورة أموال، ومساهمات في شركات أدوية وعقارات، وشراء أراضٍ بأسماء أشخاص بعيدين تنظيميًا عن الجماعة لتجنب الشبهات.
في هذا السياق، جاء قرار محكمة أمن الدولة العليا طوارئ، بناءً على طلب النائب العام، برفع أسماء 716 عنصرًا من جماعة الإخوان من قوائم الإرهاب. ومن الجدير بالذكر أن هذا الإجراء جاء نتيجة قضية مرفوعة من محامين تابعين للإخوان، والتي قضت فيها محكمة الجنايات ومحكمة النقض برفع أسماء هؤلاء الأشخاص من القائمة. يُذكر أن القائمة الأصلية تضم 808 أسماء، ومن المقرر أن تُعقد جلسة للبقية في شهر ديسمبر الجاري.
لكن السؤال الأهم هو: هل يعني رفع الأسماء من قوائم الإرهاب إعفاءهم أو إسقاط التهم والأحكام الصادرة ضدهم، أو تلك التي يقضيها بعضهم؟
الإجابة بالتأكيد لا، لأن هذه الأحكام تتعلق بوقائع قاموا بها، سواء بالمشاركة أو التنفيذ أو القيادة والإشراف في جرائم قتل واستهداف، أو حرق منشآت، أو تخريب، أو تفجير قنابل، وغيرها. بعض الأسماء المرفوعة من القوائم قد توفي أصحابها، بينما صدرت ضد البعض الآخر أحكام غيابية بالإعدام أو المؤبد. ومن طبيعة الأحكام الغيابية أنها تُصدر بأقصى عقوبة، على أن تعاد المحاكمة حال عودة المتهم وحضوره أمام المحكمة، وهو من الضمانات القانونية للحق في التقاضي.
السؤال الثاني: هل يعني رفع الأسماء أن جماعة الإخوان ليست إرهابية؟
بحسب قانون الكيانات الإرهابية، تم تصنيف جماعة الإخوان، وداعش، وحسم، والقاعدة، وغيرهم ككيانات إرهابية. وبالتالي، فإن من ينتمي لكيان إرهابي يُعتبر إرهابيًا بحكم القانون.
السؤال الثالث: هل هذا الإجراء خطوة في اتجاه المصالحة مع الإخوان؟
كما ذكرت سابقًا، فإن جماعة الإخوان في أضعف حالاتها حاليًا، ولم تعد قادرة على إحراق المشهد المصري كما فعلت بين عامي 2013 و2016، من تفجيرات، وحرائق، وعمليات قتل واستهداف للجيش والشرطة، وعمليات اغتيال، أو عمليات الذئاب المنفردة. الدعم والتمويل الخارجي للجماعة في أدنى مستوياته. لذلك، من غير المنطقي أن يتصالح القوي مع الضعيف أو المنتصر مع المهزوم. وأظن أن الدولة المصرية ستوجه قريبًا ضربة قوية قد تُنهي البقية الباقية من التنظيم، ما سيجعل عناصر الجماعة مجرد أفراد بلا أي رابط تنظيمي. وعندها، ستحتاج المرحلة إلى حركة سياسية وثقافية وفكرية قوية لكشف زيف الفكر الإخواني وتوضيح خططه.
السؤال الأخير: هل يعني ذلك ممارسة الحياة السياسية؟
القرار الصادر برفع الأسماء من قوائم الإرهاب يستتبع رفع اسم الشخص من قوائم ترقب الوصول بصفته إرهابيًا. لكن، إذا كان مطلوبًا لتنفيذ أحكام قضائية، سيتم القبض عليه في المطار مثل أي شخص يتم التحري عنه وتبين أن لديه أحكامًا واجبة التنفيذ.
كما يتيح القرار للأشخاص التوجه للسفارات المصرية لتجديد جوازات سفرهم أو أي أوراق ثبوتية وشخصية. كذلك، يُرفع الحظر عن أموالهم وممتلكاتهم، مما يسمح لهم بالتصرف فيها بالبيع والشراء. أما الأشخاص الذين لم تصدر ضدهم أحكام قضائية، فيمكنهم العودة إلى مصر.
لكن في كل الأحوال، سيكون من الصعب قانونيًا ممارسة السياسة، سواء بشكل فردي أو جماعي. ومع ذلك، هناك كيانات وأحزاب سياسية تدّعي الاشتراكية أو المدنية، وتمنح غطاءً سياسيًا وحقوقيًا للإخوان، الذين يتحركون متسترين خلف هذه الكيانات.
في النهاية، نود التأكيد أن عملية تجفيف المنابع أصعب بكثير من المواجهة المباشرة. إنها عملية صعبة ومركبة، كلفت مصر الكثير من الوقت والجهد.