مقالات

الكفور والنجوع .. المحلة الكبرى في العصر المملوكي

د/ محمد العدوي، كاتب وباحث في التراث الشعبي

اندلعت الثورة في المحلة يوم الأحد 25 رمضان عام 854 هـ الموافق 10 نوفمبر عام 1450 م، وذلك في عهد السلطان المملوكي جقمق، وكان الدافع لها سوء الأحوال الاقتصادية وكثرة مصادرات المماليك للأموال وفرض أنواع مختلفة من المكوس والضرائب. لكن السبب المباشر الذي فجَّر الأوضاع كان تعيين شهاب الدين أحمد الزيني واليًا على المحلة، وكان فاسدًا مرتشيًا يرتكب المظالم ويجاهر بالقبائح ولا يراعي حالة الناس المعيشية.

وكان يستند في نفوذه إلى أخيه زين الدين يحيى بن عبد الرازق الزيني الظاهري الأستادار المعروف بالأشقر، والذي كان من كبار رجال الدولة في عهد السلطان جقمق، حيث كان يتولى عدة مناصب في وقت واحد وهي ناظر الديوان المفرد، وهو الإقطاع الخاص بالسلطان، ومنصب الأستادار، والذي يتولى الإشراف على بيوت السلطان ونفقاته، ثم أضيف إليه منصب محتسب القاهرة. وكان معروفًا عنه تدرُّجه في المناصب عن طريق الرشوة والبرطلة، وانتهت حياته في السجن في عهد السلطان قايتباي الذي صادر كل أمواله.

وزعيم هذه الثورة رجل صدع بالحق ولم يخشَ في الله لومة لائم، وهو صاحب المسجد المعروف باسم مسجد ولي الدين الموجود حاليًا في شارع العباسي القديم، الإمام ولي الدين أحمد بن محمد المحلي الشافعي، وله قصة طويلة سابقة مع السلطان جقمق حيث جهر على منبره بالنقد لكثير من منكرات عصره، فتمت الوشاية به واعتقله وسجنه في بيمارستان (مستشفى) القاهرة حتى تبين الأمر وعرف السلطان الحقيقة وأصدر تعليماته بتصحيح الأوضاع، ونُقش ذلك على جدارية لا زالت موجودة في مسجد المتولي حتى اليوم.

وقد بدأت الثورة في المحلة من على منابر المساجد، ثم انتهت إلى مهاجمة بيت الوالي وإخراجه عاريًا إلى المسجد وضربه بالعصيان ثم قتله. وكانت ثورات المدن في عهد المماليك الجراكسة أمرًا متكررًا مثلما حدث في دمياط والإسكندرية، وحدث في بعضها قتل للولاة أو نوابهم، لكن ثورة المحلة كانت مختلفة لأنها حظيت بتعاطف ودعم كبير من كافة فئات الناس في القاهرة، حيث اصطف العوام لتحية زعماء الثورة المقبوض عليهم، وعلت الهتافات ضد الأستادار وأعوانه.

ورفض القضاة طلب السلطان بمحاكمة المتهمين، والذين كان من ضمنهم الإمام الشيخ ولي الدين المحلي. وارتجَّت القاهرة وأُصيب الأستادار بالذعر واحتمى بالسلطان الذي اضطر لمداراة الأمر حتى لا تستفحل الأمور وتنتقل الثورة إلى القاهرة، فاكتفى بحبس زعماء الثورة وأصدر تعليماته بمنع حمل السلاح والتحذير من محاولة رجم الأستادار، وجمع القضاة ثانية وطلب منهم عدم الكلام في الأمر حتى هدأت الأمور، ثم قام السلطان بإطلاق المحبوسين وإعادتهم إلى المحلة معززين مكرمين بشفاعة الشيخ محمد بن عمر الطريني.

ويعلّق الدكتور أحمد صبحي منصور على تلك الواقعة في دراسة له حول علاقة الصوفية بالمماليك، فيقول: “وقد تأثر أغلب فقهاء العصر بالتصوف ومع ذلك تلمح في بعضهم جانبًا من الثورية في مقابل الظلم. وواضح إباء فقهاء الريف وقوة صلتهم بالناس هناك وعدم تعاونهم مع السلطة ووقوفهم ضد ظلمها مما أوقع المماليك في وجل فتصرفوا بالشدة، ولم يكن الحال بين القاهريين أقل منه في الريف بدليل مقتهم للأستادار وعمله بثوار المحلة. ونذكر قضاة جقمق بالخير لأنهم لم يوافقوا السلطان على هواه وقد عُرف بقتل خصومه باتهامهم بالكفر”.

وجاء تفصيل أحداث الثورة في كتاب التبر المسبوك في ذيل السلوك، وذلك في الفصل الخاص بأحداث عام 854 هـ، حيث يقول السخاوي: “شهر رمضان أوله الخميس. في يوم الجمعة سادس عشره، ويوافقه سادس عشري بابه، لبس السلطان القماش الصوف الملون وألبس الأمراء المقدمين على العادة. وفي يوم الأحد خامس عشريه كان قتل شهاب الدين أحمد أخي الزين الأستادار من أمه. وشرح قضيته باختصار أن المشار إليه لما كثر ظلمه وتعرضه للأقوات وغيرها في هذه الأيام اليابسة وتجاهره بكل قبيح، فلم تحتمل العامة فيه ذلك.

وقدّر أن الشيخ الواعظ ولي الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن المحلي والد شمس الدين محمد صهر الغمري توجه إلى الله تعالى عقب قراءة البخاري في الجامع، وأكثر من الاستغاثة والانتصار بالله على الظلمة ومن جملتهم المذكور، فضج من حضر بذلك وارتفعت أصواتهم بالدعاء عليه بل وصعدوا المنابر فكبروا وأعلنوا.

ثم نزلوا فتوجهوا إليه بصندفا محل سكناه، وقد تبعهم من الغوغاء والخلق من لا يحصيهم إلا الله، فأخرجوه من بيته بعد نهبهم منه ما يفوق الوصف، وضربوه ضربًا زائدًا وأدموا رأسه واستصحبوه معهم إلى جامع المحلة وهو عريان ماشٍ في وسطه إزار. فلما وصلوا الجامع ضرب بالعصي والمطارق على دماغه بحيث تخلى وسقط وصاروا يسحبونه برجليه ورأسه من إفريز الجامع، فما كان أسرع من موته غير مأسوف عليه.

وجاء الخبر بذلك، فأرسل الزيني أعوانه فاحتاطوا بجماعة من أهل المحلة وضربوا آخرين، وفاز الكثير منهم بنفسه وفروا. وكان القدوم بالممسوكين في يوم السبت ثامن الشهر الذي يليه، فبرز الأستادار إلى شبرا للقائهم وأمر بجماعة منهم فضُربوا بين يديه بالمقارع، وأُركب نحو عشرة منهم، بعضهم على الجمال وبعضهم على الحمير أو الخيل، ومن جملتهم الخطيب المذكور والبدر بن مجاهد وأحد المذكورين عبد الغني بن قطورا.

وهرع الناس لرؤيتهم بقنطرة الحاجب ثم تحت الربع ظاهر بابي زويلة، وتألموا بسببهم وأعلنوا بسب الأستادار ولعنه، بحيث إنه خاف على نفسه ولم يصعد يوم الأحد تاسعه القلعة وهو مخيف بجمع كثير من الحرسية والزعر والمماليك. ومع هذا فما سلم من السب واللعن والدعاء عليه في غالب الأماكن التي يمر بها، بل أرادوا رجمه وتزايد جمعهم، فبادر وطلع القلعة من باب الدرفيل، فحمل إلى السلطان وحكى له ما قاسى، فتغيّظ ورام الركوب على العوام بنفسه.

ثم استدعى بالقضاة واستفتاهم في ذلك، فما وافقه أحد عليه، ثم طلب الغرماء فادعى عليهم عند الشافعي، ثم أرسل ببعضهم إلى الوالي ليعزرهم وأودعهم السجن، ورسم بالنداء بالمنع من حمل السلاح والرجم وعدم الخوض فيما لا يعنيهم. ففعل ذلك بين يدي القضاة وغيرهم، وسكن الأمر بعض سكون، إلى أن كان في يوم الأحد ثامن ذي القعدة وصل الشيخ محمد بن الشيخ عمر الطريني من المحلة وطلع إلى السلطان فشفع في الجماعة المسجونين، فقبل شفاعته وأطلقهم”.

مصطفى الطبجي

مصطفى الطبجي، كاتب صحفي في موقع برلمان مصر، وله العديد من المؤلفات والأوراق البحثية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى