
في عام 1959 وخلال فترة الحرب الباردة تم إنشاء “حلف بغداد” لمواجهة التمدد السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط، الحلف الذي ضم كلا من بريطانيا، إيران، العراق، تركيا، وباكستان، المدعوم اقتصاديا وعسكريا من الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه منذ اندلاع “الثورة الإسلامية” في إيران عام 1979، وحتى يومنا هذا، دخلت العلاقات بين واشنطن وطهران نفقا مظلما، تتأرجح فيه الأحداث بين التوتر والانفجار، المفاوضات والتهديدات، خاصة بعد الإطاحة بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، واقتحام السفارة الأمريكية في طهران وما تلاه من احتجاز الرهائن لمدة 444 يوم.
لم تكن عملية احتجاز الرهائن هي الأخيرة، بل إنه وسط بتفجير مقر السفارة الأمريكية في بيروت الغربية، ليتم بعدها إدراج إيران في عام 1984 على قائمة الدول الراعية للإرهاب، ومنذ ذلك الحين، خاض الطرفان حروبا بالوكالة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، حيث تدعم إيران حلفاء مثل حزب الله وحماس والحوثيين، بينما ترعى واشنطن حلفاءها مثل الحرب العراقية الإيران بين عامي 1980 و1988 أو عن طريق فرض عقوبات اقتصادية قاسية على طهران.
وسط صراع النفوذ هذا، ظل البرنامج النووي الإيراني في قلب المواجهة، ترى طهران أن امتلاكها لتقنية تخصيب اليورانيوم هو حق سيادي وامتداد لكرامة الثورة، خاصة وأنها تنفي طوال الوقت سعيها لامتلاك سلاح نووي، وتحاول عبر منابر الأمم المتحدة إظهار نفسها كقوة سلمية، فيما تعتبره واشنطن وتل أبيب تهديدا وجوديا لمصالح الأولى وبقاء الثانية في المنطقة، وهو ما يوجب وقفه بكل السبل، ها نحن في يونيو 2025 نعيش على وقع طبول حرب تُقرع، وقد لا تُقرع، لكنها تُسمَع بقوة في عواصم القرار ومضائق النفط طوال 46 عاما.
جاءت التحركات الأخيرة لتزيد الأجواء توتراً. فالأمس أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية أمرا بإجلاء الموظفين غير الأساسيين من سفارتها في بغداد، وسمحت لعائلات العسكريين في الكويت والبحرين بمغادرة الخليج. وتزامن ذلك مع تحذيرات بريطانية للسفن التجارية مما أسمته “توتر متصاعد في الممرات المائية الحيوية”.
وتضاربت الأنباء حول استعدادات إسرائيلية لشن ضربة جوية على المنشآت النووية الإيرانية، وسط استنفار في سلاحها الجوي يشبه الأوضاع قبيل قصف مفاعل أوبيرا العراقي عام 1981. في المقابل، توعّد وزير الدفاع الإيراني بأن أي هجوم على بلاده سيواجه برد عسكري واسع، قد يطال القواعد الأمريكية في الخليج، مع تلميح باستخدام الصواريخ الباليستية وتهديد الملاحة في مضيقي هرمز وباب المندب، الممرين اللذين يمر عبرهما حوالي 20% من نفط العالم.
حتى اللحظة، لا توجد مؤشرات رسمية على بدء حرب شاملة، لكن هناك تحركات على كل المستويات: دبلوماسية تدور في سلطنة عمان ومصر، تهديدات متبادلة، واستعدادات عسكرية تقرأ بين السطور، التصريحات الأمريكية تميل إلى استعراض القوة، فيما تتحدث إيران عن السيادة والكرامة، في نفس الوقت كل طرف يدرك أن كلفة الحرب قد تكون أكبر من أن تُحتمل، فحتى إذا جرى توجيه ضربة محدودة، فإن الرد قد يشعل المنطقة، ويغرق الشرق الأوسط في صراع مدمر وأمريكا في استنزاف اقتصادي، لذا أن الخيار الأقل خطورة استمرار التفاوض مع إبقاء التهديد خلف الكواليس.
كل ما سبق يُعد شرحًا مختصرًا لإرث العداء بين واشنطن وطهران، ووصفًا سريعًا للتطورات العسكرية والسياسية المتسارعة، لكن ما يهمنا هنا هو الأثر المباشر وغير المباشر على الدولة المصرية، وخاصة في ملف أسعار النفط، التي ارتفعت خلال ساعات قليلة بنسبة 4%، مع توقعات بوصولها إلى 150 دولارًا للبرميل حال حدوث مواجهة تُغلق أحد المضائق الحيوية.
ورغم تمسك مصر بسياسة الحياد النسبي، إلا أن الأضرار الإقليمية تُلقي بظلالها الثقيلة على الداخل المصري:
- تأثرت حركة الملاحة في قناة السويس بشكل غير مسبوق بسبب هجمات الحوثيين على السفن، مما أدى إلى تراجع إيرادات القناة إلى نحو 4 مليار دولار فقط في عام 2024، مقارنة بـ10.3 مليار في عام 2023.
- كما أن اعتماد مصر على واردات الوقود يجعل أي ارتفاع في أسعار النفط عبئًا إضافيًا على الموازنة العامة، ويزيد من نسبة التضخم، الأمر الذي قد يُفاقم من الضغوط الاجتماعية والمعيشية على المواطن.
- كذلك، فإن التحويلات المالية من المصريين العاملين في الخليج، وهي من أبرز مصادر العملة الصعبة، قد تتأثر سلبيًا إذا ما تعرضت دول الخليج لأي زعزعة استقرار، وهو ما يُهدد توازن الاقتصاد المصري بشكل غير مباشر
ورغم أن التطورات الإقليمية تفرض تحديات جسيمة، إلا أن مصر ما زالت تملك أدوات التحرك الإيجابي، بشرط التحرك السريع والمدروس، فزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، وتسريع خطوات التحول إلى الغاز الطبيعي، وتعزيز الاستثمار في مشروعات الهيدروجين الأخضر، كلها بدائل تساهم في تقليل فاتورة الاستيراد وتحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي.
كذلك، فإن تنويع مصادر العملة الصعبة، من خلال دعم أكبر للسياحة، وتوسيع أسواق التصدير، وجذب الاستثمارات المباشرة، يمكن أن يحد من أثر أي تراجع في التحويلات من الخارج، أما قناة السويس، فربما تكون هذه الأزمة فرصة لإعادة هيكلة منظومة التأمين البحري، وتحسين الخدمات اللوجستية، بما يعزز من قدرة القناة على الصمود أمام أي تهديد.
المشهد ليس بسيطًا، لكن التاريخ علمنا أن التحديات الكبرى كثيرًا ما تحمل في طياتها فرصًا للنهوض، إذا ما أُحسن إدارتها. ومصر، بتاريخها وموقعها وخبراتها، قادرة على أن تتجاوز العاصفة — شرط أن تستعد لها جيدًا