“تشجير الفيس بوك” والمال العام
ستبقى مشكلتنا الحقيقية في مصر أنه لا توجد لدينا حكومة بمعناها الحقيقي. لدينا وزارات وهيئات ومجالس ومؤسسات، ولكن كل يغني على ليلاه. فلا استراتيجية للحكومة، ولا حتى خطة تلتزم بها بشكل حقيقي. قد يكون ذلك سيء للغاية، لكن الأسوأ أنه لا يوجد حتى تعاون بين الوزارات المختلفة داخل الحكومة والمديريات وأجهزة الإدارة المحلية.
أما الكارثي فهو أننا أمام مؤسسات وهيئات بل ووزارات لا حول لها ولا قوة، فالقوة والسلطة متركزة في وزارات ومؤسسات وإدارات بعينها، وقضية التنسيق الحضاري والتشجير والبيئة وتهيئة المرافق لتناسب ذوي الإعاقة والحفاظ على حق المواطن في الشارع، هي بالتأكيد قضايا ليست على أجندة من هم أكثر نفوذًا في السلطة والحكومة.
لا يمكن لعاقل أن يرى في التجريف خيرًا ولا في قطع الأشجار تحضرًا. ولا يمكن لموضوعي أيضًا أن يرى في قطع الأشجار “خدمة للكيان الصهيوني” أو “لأهداف شيطانية” كما ذهب البعض. ولا لمنصف أن يرى في الاعتراض على التجريف “خدمة لجماعة إرهابية” أو “عدم وطنية” كما ذهب البعض الآخر. في كل الأحوال يبقى هذا التوجه على السوشيال ميديا مؤشر جيد على زيادة الوعي بأهمية التشجير ووجود المساحات الخضراء في حياتنا ولحياتنا.
لكن أهم ما كشف عنه هذا التريند في تقديري هو أننا بالفعل أمام حكومة “مخوخة”، واتضح ذلك جليًا من خلال حملة الرد الحكومية التي تستحق الشفقة في الحقيقة. فالجميع في الحكومة والإدارة المحلية سارع بإبراء ذمته، بالإعلان عن عمليات تشجير “تمت وتتم”. والبعض قام بنشر مساحات خضراء لا تتجاوز أمتار على اعتبار أن الحدائق داخل محافظته تستعد لاستقبال الزوار، محاولات بائسة للتغطية على الجريمة التي حدثت ومازالت تحدث، محاولات كلها تشير إلى أن الحكومة تبذل بالفعل قصارى جهدها في تشجير الفيس بوك، لكنها كذلك تبذل كل ما أوتيت من قوة في تجريف المدن والقرى المصرية.
الحقيقة أن هناك تجريف حقيقي حدث للأشجار في مصر، والحديث عن زراعة أشجار جديدة في “أماكن جديدة” الحقيقة لا يبرر الجريمة، فالزيادة السكانية وما يتبعها من زيادة الكربون المنبعث في البيئة سواء من السيارات أو المصانع أو غيرها يستوجب عمل استراتيجية حقيقية للتشجير، وليس إجراءات عبثية دون أي استراتيجية بزراعة أشجار في مدن جديدة لم يسكنها أحد بعد (وهو ورغم كل شيء أمر جيد) مقابل تجريف المساحات الخضراء في المدن المأهولة التي يسكنها الشعب المصري في غالبيته العظمى!.
ومن خلال تجربة شخصية، أقول إننا حاولنا مرات عديدة للحفاظ على الأشجار والمساحات الخضراء في عديد من المناطق إلا أن الاستجابة كانت معدومة وكان يتم قطع وتجريف ما هو موجود منها أو عدم الشروع في تنفيذ ما هو مطلوب منها، رغم توصيات مجلس النواب المتكررة، وذلك من جانب السلطات المختصة سواء المحافظة أو وزارتي البيئة والتنمية المحلية، وفي الوقت نفسه كان يتم نشر الصور على وسائل التواصل الاجتماعي ضمن المبادرات الرئاسية للتشجير من جانب نفس الجهات، في إطار حملة تشجير الفيس بوك التي لا وجود لها على أرض الواقع!.
والحقيقة أن القضية أكبر من كونها تريند، وبوست هنا وبوست هناك. القضية قضية مال عام تم إنفاقه بمئات الملايين من الجنيهات، بدعوى “زراعة” مئات الملايين من الأشجار، وبكل ثقة أقول إن كلها أيضًا تم بغرض الصورة والشو والتملق السياسي، فالهدف لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال مجرد غرس شتلة (وليست حتى شجرة) وإنما التشجير والحفاظ على البيئة في ظل التغيرات المناخية.. وهو ما لم يتحقق على الإطلاق!.
كل ما تم تسميته “تشجير” في إطار المبادرات المختلفة مثل “اتحضر للأخضر” و”100 مليون شجرة” وغيرها مما قامت به الوزارات والمحافظات بحاجة إلى لجنة محايدة لمراجعة ما تمت زراعته وما آل إليه ومعرفة كم الأموال التي تم إهدارها في إطار عملية تشجير وهمية لم يحاسب عليها أحد، ولم يتبقى منها سوى عدد من الصور التي يتم نشرها كل فترة إما تملقًا أو لإسكات أي رفض اجتماعي لعمليات التجريف وقطع الأشجار.