دراسة تاريخ القرى والنجوع في الأقاليم المصرية هام جدا لمعرفة طبيعة الحياة في العصور القديمة، لكن تكمن المشكلة في التدوين الذي تركز غالبا على العواصم والمدن الكبرى، ولذا فإن المسجل لدينا من القرى والبلدات المصرية من العصور الفرعونية والبطلمية والرومانية، من أسماء، هي فقط 607 موضع منهم 538 معروف مكانها والباقي غير مؤكد، ويشمل ذلك كافة المواقع الأثرية الفرعونية والسجلات الرومانية والوثائق القبطية والمخطوطات والبرديات وما ورد في تاريخ الآباء البطاركة وتاريخ الكنائس والأديرة والسلالم (القواميس العربية القبطية) والوثائق اليونانية المحققة وما كتبه علماء المصريات.
معظم هذه البلدات لا توجد فيها معلومات وافية .. فقط الاسم والموقع وذكر الآثار الموجودة من المعبودات والملوك أو معلومات شحيحة جدا من العصور الرومانية تكتب في بضعة أسطر، أما بعد دخول العرب فهناك اهتمام كبير بالتدوين وتسجيل الإحصاءات الرسمية للمسح الشامل لكافة القرى والمدن ويشمل ذلك الوصف الجغرافي والتكوين السكاني ومساحة الزمام الزراعي والإيراد المالي، ودعم ذلك بكتابات الرحالة والجغرافيين والمؤرخين وكتاب السير الذاتية والقبائل والصوفية بحيث أصبح لدينا صورة واضحة عن الأقاليم وأسواقها وتجاراتها وأهم الشخصيات التي عاشت فيها وما مرت به من أحداث.
وقد تتابعت هذه الإحصاءات كالتالي:
- عام 110 هـ / 729 م في ولاية الوليد بن رفاعة الفهمي وعامل الخراج عبيد الله بن الحبحاب
- عام 255 هـ / 869 م في إمارة أحمد بن طولون وعامل الخراج أحمد بن المدبر
- عام 345 هـ / 957 م في عهد كافور الإخشيدي ومتولي الخراج بولس بن شفا الكاتب
- عام 483 هـ / 1090 م في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي ووزارة بدر الجمالي
- عام 572 هـ / 1177 م في عهد السلطان صلاح الدين الأيوبي ووزارة القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني (الروك الصلاحي ونقلت في كتاب قوانين الدواوين للأسعد بن مماتي ناظر ديوان المال)
في عصور المماليك والعثمانيين كانت كالتالي:
- عام 697 هـ / 1298 م في عهد السلطان حسام الدين لاجين ووزارة تاج الدين الطويل
- عام 715 هـ 1315 م في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون وبإشراف أمرائه (الروك الناصري وقد سجل في كتاب التحفة السنية لابن الجيعان مستوفي الديوان)
- عام 933 هـ / 1527 م في ولاية سليمان باشا الخادم وتنفيذ الأمير كيوان (دفاتر التربيع العثماني)
- عام 1224 هـ / 1809 م في عهد محمد علي باشا (دفتر أسماء نواحي الولايات)
- عام 1270 هـ / 1854 م في عهد سعيد باشا
- عام 1317 هـ / 1899 م في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني
وفي المسح الشامل دونت جميع القرى والبلدات بلا استثناء ويمكن من خلالها تتبع حركة العمران في الأقاليم وما طرأ عليها من زيادة وتوسع مع وصف شامل لأحوالها الزراعية .. مثلا في الروك الصلاحي كانت القرى في الدلتا 1541 وفي الصعيد 530 قرية، وفي الروك الناصري كانت في الدلتا 1739 وفي الصعيد 741 قرية، وفي التربيع العثماني كانت في الدلتا 1822 وفي الصعيد 1192 قرية، وفي القرن التاسع عشر كانت في الدلتا 2156 وفي الصعيد 1392 قرية، وذكر في كل ذلك كافة العزب والكفور والنجوع والمدن بمساحتها وموقعها الجغرافي بدقة وقيمة متحصلاتها المالية وأسماء الإقطاعيين وشيوخ العرب في كل واحدة منهم.
ولا شك أن عددا كبيرا من القرى قديم يرجع إلى عصور الفراعنة والرومان، بدليل وجود أسماء غير عربية لهذه القرى لكن لا توجد سجلات توثق تاريخ بنائها ولا أي معلومات متاحة عن الفترة الزمنية التي نشأت فيها بالتحديد، بينما القرى التي نشأت في العصور الإسلامية يمكن معرفة تاريخ تأسيسها من خلال المقارنة بين السجلات المختلفة .. مثلا إذا وجدت قرية غير مذكورة في الروك الصلاحي لكن ظهرت في الروك الناصري فهذا يعني أنها تأسست في الفترة الزمنية التي تقع بينهما خاصة وأن غالبية القرى احتفظت باسمها طوال قرون ولم تتغير أسماء القرى إلا في عهد سعيد باشا وبشروط محددة ولأسباب معلومة.
وليست السجلات الرسمية هي المصدر الوحيد لتاريخ الكفور والنجوع في العصور الإسلامية وإنما لدينا عدد ضخم من كتابة المؤلفين الموسوعيين رصدوا فيها تاريخ عدد من البلاد لأسباب سياسية أو اقتصادية وتوسعوا في ذلك مثل الإدريسي، ابن فضل الله، النويري، القلقشندي، والمقريزي، فضلا عن كتابات السير الذاتية مثل ابن خلكان، ابن حجر، السخاوي، ابن تغري بردي، المحبي، والغزي، وكذلك كتابات الرحالة مثل ابن بطوطة، البغدادي، والمرتضى الزبيدي، وكتابات الصوفية مثل الشعراني، والمنياوي، وغيرهم، حيث كان انتشار المتصوفة لا يقتصر على المدن فقط بل وصل للقرى الصغيرة فظهرت في كتاباتهم.
وهكذا ظهر أمامنا تاريخ القرية المصرية في العصور الإسلامية كأنه كتاب مفتوح يحوي الكثير من تفاصيل الحياة اليومية وأحوال الاقتصاد والاجتماع ، وربما هناك حاجة لمزيد من البحث والجهد في العصور الأقدم لاستكمال التاريخ الكامل للكفور والنجوع والبلاد المصرية لأن فقدان التدوين يعني ببساطة فقدان التاريخ.