مقالات

النقابات الحية… للناس صوتا

مصطفى الطبجي، باحث تاريخ سياسي

في زمن تجرى فيه أعمال تأميم السياسة، الأندية، المجتمع المدني، كل شيء عدا الصناعة، تأبى بعض النقابات المهنية أن تُختزل إلى طاولة اجتماعات خشبية، رحلات مصيف موسمية، بدلات نقدية، ورعاية صحية، تُدار من خارجها لا من داخلها، تأبى نقابات المهندسين، الصحفيين، المحامين، والأطباء (هذا الرباعي الثقيل) وأد انتخاباتها التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى ما يشبه معركة وعي مصغرة، يقاس منها نبض الشارع المهني والسياسي، وتكشف عن تشققات جدار الصمت العام لدى عموم المواطنين.

يهل علينا قبل استكمال السرد، سؤال بديهي، لماذا تحصد انتخابات هذه النقابات الأربع زخما واهتماما أكثر من انتخابات غيرها من النقابات المهنية؟ ببساطة، كونها ليست فقط “نقابات مهنية” تحفظ الحقوق وتدير الصناديق الخاصة بها، بل هي (تاريخيا) نوافذ سياسة، ومنابر رأي، وساحات حراك اجتماعي واشتباك اقتصادي وقانوني.

المهندسون: حينما ينتخب من يبني الدولة

نقابة المهندسين ليست فقط حاضنة لحاملي مساطر حرف T، بل هي مؤسسة تُدير مليارات الجنيهات من الاستثمارات، وتُربي داخلها جيلا من قادة قد يجدوا أنفسهم بعد سنوات على مقاعد البرلمان أو داخل دهاليز الحكم، وليست صدفة أبدا أنه في الـ 21 عاما الأخيرة، تولى منصب رئيس مجلس الوزراء 6 مهندسين من أصل 9، لذا فإن السيطرة على النقابة ليست مطلبا نقابيا فحسب، بل هو استثمار سياسي طويل الأجل.

الصحفيون: صناع الرواية وكتّاب التاريخ

حينما يُنتخب نقيب الصحفيين، فالأمر لا يخص فقط بدل التكنولوجيا أو مواعيد العلاج أو بناء نادي أو دار للمسنين، بل هو صراع على من يمتلك “المايكروفون” في هذا الوطن، هل سيصبح صوت النقابة مستقلا؟! وبالتالي مساحة أكبر من الحرية للصحافة، أم تتحول النقابة إلى متحدث رسمي باسم من لا يحب الضجيج؟ النقابة هنا إذا ليست مؤسسة، بل ساحة لمعركة كبرى عنوانها الأساسي: من يروي يوميات مصر والمصريين؟!

المحامون: السد القانوني الأخير

محام واحد قد يعطل ظلما، أو يكشف فسادا، أو يثبت الجرم على متهم، أو يفضح قانونا يصاغ على عجل في سواد الليل، نقابة المحامين ليست فقط هيئة تدافع عن أعضائها، بل أحيانا تصبح هي آخر من يقف في وجه تدوير العدالة لخدمة السلطة الحاكمة، ومن هنا فإن السيطرة على النقابة تعني (بالنسبة للبعض) ضبط إيقاع القانون على مقاس الحكم، ولعل المعركة التي يخوضها المحامون مع وزير التربية والتعليم خير مثال على ذلك.

الأطباء: الحائرون بين المشرط والمعركة

هؤلاء لا يملكون وقتا للاشتباك، فقد اعتادوا التواجد في الصفوف الأولى دون “دوشة” لكن حينما يتحدث الأطباء، فذلك يعني أن الألم قد تجاوز غرفة العمليات إلى جسد الوطن بأكمله. نقابتهم، بصمتها النسبي، تزعج النظام أكثر مما تريحه فمن يمسك بزمامها، قد يعيد تعريف علاقة الدولة بصحة مواطنيها.

النظام والنقابات… حوار الصمت والمفاجأة

بغض النظر عن تقييمك للنظام الحالي، سواء رأيته نظاما إداريا منضبطا أو سلطة تفشل في تحقيق وعودها، فإن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن هذا النظام لا يمانع من وجود معارضة، سواء كانت معارضة مهادنة وضعت لنفسها خطوطا حمراء، أو معارضة شرسة تتخذ مواقفها من أيدولوجيتها الخاصة لا حدود لها إلا الوطن، بل يمكن القول أن تعامل النظام مع المعارضة كتعامل الطبيب مع صوت جهاز الإنذار: لا يزعجه طالما بقي صوته داخل حدود غرفة العمليات (الدولة).

لكن… ورغم هذا الاتساع الظاهري في صدر الدولة، هناك شيء واحد لا يتحمله النظام: المفاجآت، النظام الحالي لا يحب أن يؤخذ على حين غرة، لا يريد أن يستيقظ صباحا ليجد نقابة بأصوات حقيقية، قررت فتح ملف ما أو الاعتراض على قانون ما، دون انتظار تعليمات، النظام الحالي يريد المعارضة مرتبة، قراراتها وإن كانت مستقلة إلا أنها  تظل داخل التوقعات، مفرغة من أي مغامرة سياسية.

لذلك، فإن انتخابات النقابات الأربع الكبرى (المهندسين – الصحفيين – المحامين – الأطباء) تعامل في أروقة الدولة لا كحدث نقابي بسيط، بل كأنها “بروفة مصغرة” لأي انتخابات كبرى، هي ليست مجرد مؤسسات مهنية، بل مؤسسات تمتلك أرشيف تاريخي طويل من الرفض والكرامة والخلاف والاتفاق مع السلطة، تحمل في صناديق اقتراعها احتمالات لا يحبها النظام: احتمال المفاجأة.

أخيرا… النقابات (بشكل عام) ليست “جمعيات خدمات” كما يتمنى البعض، أو كما يتوهم البعض، أو كما يرغب البعض، أو كما يسعى البعض، بل هي خطوط تماس بين المواطنين والسلطة، فحينما يختار عضو النقابة من يمثله، فهو لا يختار فقط مسؤولا عن المعاشات والبدلات والرحلات، بل هو بصوت خافت يقول “ما زلنا هنا… وما زلنا نجيد الاختيار، ولو في بقعة صغيرة من وطن أنهكه الفساد.”

مصطفى الطبجي

مصطفى الطبجي، كاتب صحفي في موقع برلمان مصر، وله العديد من المؤلفات والأوراق البحثية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى